عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 05-27-2010, 12:16 AM
الصورة الرمزية مُنتهى آلرقـه
مُنتهى آلرقـه غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الأمآكن الي مريت إنت بيهآ .,,
المشاركات: 1,259
مُنتهى آلرقـه is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثالث


باريس ذات أيلول!

كنا في خريف كأنه شتاء. قررت بدءا أن أنشغل بتبديد الحياة, بخمول من توقف لأول مرة عن الجري, فحلت به متاعب عمر.

الأربعون. وكل ذلك الهدر, تلك الانكسارات , الخسارات, الصداقات التي ما كانت صداقات, الانتصارات التي ماكانت انتصارات, وتلك الشهوات... التي استوت على نار الصبر الخافتة.

كنت أود لو استطعت اختبار طيش الغرباء. في صباحاتي المتأخرة , أحلم بنساء لا أعرف لهن أسماء, يشجعنك بدون كلام على اقتحامهن, نساء عابرات لضجر عابر. ولكن كيف تعبر ممالك المتعة, وقد سلبك الرعب الهارب منه جواز مرور رجولتك, وعليك أن تعيش بإثم الشهوات غير المحققة.



لكأنني, في كل سرير, كنت أعد حقائبي لأسفار كاذبة نحو صدرها, أتململ في الحزن, بحثا عن حزن أنثوي أرحم, أستقر فيه.



برغم سعادتي بالسفر, كان الحزن حولي يفخخ كل ما يبدو لغيري فرحا, بدءا بتلك الجائزة التي تجعلك تكتشف بسخرية مرة أنك تحتاج إلى أسابيع من مهانة الإجراءات, كي تتمكن من السفر إلى باريس, لاستلام جائزة صورة لا يستغرق وصولها بالإنترنت إلى العالم كله, أكثر من لحظة.

ذلك أن "فيزا الصورة" هي تأشيرة للصورة, لا لصاحبها. وعولمة الصور لا تعني منح البشر حق الأشياء في التنقل!

لا وقت لك لتسأل نفسك " من الأهم إذن : أنت .. أم صورة التقطتها؟".

مشغول أنت. مدينة برغبات صاخبة تنتظرك. سلالم معدنية تتلقفك لتقذف بك نحو قاطرات المترو, فتختلط بالعابرين والمسرعين والمشردين, ويحدث وسط الأمواج البشرية, أن ترتطم بموطنك. لا ذاك الذي يكنس شوارع الغربة. أو عاطلا عن الأمل, يتسكع مثيرا للحذر والريبة. إنما وطنا آخر كان مفخرتك, وأجهز القتلة على أحلامه.

بعد ذلك ستعرف أن الجزائر سبقتك إلى باريس, وأن تلك الرصاصة التي صوبها الإرهابيون نحو رأسها, جعلت نزفها يتدفق هنا بعشرات الكتاب والسينمائيين والرسامين والمسرحيين والأطباء والباحثين, وأن الفوج الجديد من جزائريي الشتات, قام بتأسيس عدة جمعيات لمساندة ما بقي في الجزائر من مثقفين على قيد الموت في قبضة الإرهاب.



بعد وصولي بأيام قصدت المركز الثقافي الجزائري تسقطا لأخبار الوطن. ورغبة في الإطلاع على الصحافة الجزائرية التي لا تصل كل عناوينها إلى فرنسا.

كان المبنى على جماله موحشا كضريح شيد لتأبين فاخر للثقافة بذريعة الاحتفاء بها. أو لعله شيد بذريعة وهب الاسترزاق بالعملة الصعبة , للذين في الزمن الصعب كسدت بضاعتهم في دكاكين الوطن.

ماكانت برودته تشجع على تصفح هموم البلاد. ولم ينقذني يومها من الصقيع, سوى ملصقات كانت تعلن عن نشاطات ثقافية متفرقة في باريس.

اكتفيت بأن أسجل في مفكرتي تاريخ عرض إحدى المسرحيات, وكذلك عنوان الرواق الذي يقام فيه معرض جماعي لرسامين جزائريين.



ماكنت لأظن وأنا أقصد بعد يومين ذلك الرواق يوم الافتتاح, أن كل الأقدار الغريبة ستتضافر لاحقا انطلاقا من ذلك المعرض, لتقلب قدري رأسا على عقب.

كانت القاعة تستبقيك بدفئها, كوقوفك تحت البرد, أمام عربات القسطل المشوي في شوارع باريس. دفء له رائحة ولون وكلمات, صنعها الرسامون أنفسهم لإحراجك عاطفيا, بفضلهم بين اللوحات بصور المبدعين الذين اغتيلوا , وبوضعهم علما جزائريا صغيرا جوار الدفتر الذهبي, وإرفاقهم دليل اللوحات بكلمة تحثك ألا تساهم في اغتيالهم مرة ثانية بالنسيان, وإهمال من تركوا خلفهم من يتامى وثكالى.

تشعر برغبة في البكاء. تكاد تندم على زيارتك المعرض. أسافرت حتى هنا لتجد كل هذه الصور في انتظارك؟

احتدم النقاش يومها بين بعض الزوار, حول من يقتل من في الجزائر. كأنهم كانوا ينتظرون أن يلتقوا كي يختلفوا. تعذر علي مجادلتهم. وتعذر على مزاجي غير المهيأ لمزيد من الحزن تجاهل ذلك الكم من الاستفزاز المتراشق به بين الجمل.

لم أطل البقاء. قررت العودة لاحقا في يوم من أيام الأسبوع.



أذكر أنني قضيت عدة أيام قبل أن أقصد ذلك الرواق ذات ظهيرة, لوجودي في محطة مترو غير بعيدة عنه.

كان كل شيء فيه يبدو يومها هادئا ومسالما. لا شيء من ضجيج الافتتاح. عدا صخب اللوحات في خبث تآمر صمتها عليك.

رحت أتجول في ذلك المعرض, عندما استوقفت نظري مجموعة لوحات معروضة تمثل جميعها جسورا مرسومة في ساعات مختلفة من النهار بجاذبية تكرار مربك في تشابهه. كل ثلاثة أو أربعة منها للجسر نفسه:

جسر باب القنطرة, أقدم جسور قسنطينة, وجسر سيدي راشد بأقواسه الحجرية العالية ذات الأقطار المتفاوتة, وجسر الشلالات مختبئا كصغير بين الوديان. وحده جسر سيدي مسيد, أعلى جسور قسنطينة, كان مرسوما بطريقة مختلفة على لوحة فريدة تمثل جسرا معلقا من الطرفين بالحبال الحديدية على علو شاهق كأرجوحة في السماء.

وقفت طويلا أمام لوحات لها عندي ألفة بصرية, كأنني عرفتها في زمن ما, أو شاركت الفنان في رسمها. كانت على بساطتها محملة بشحنة عاطفية, تنحرف بك إلى ذاتك, حتى لكأنها تخترقك, أو تشطرك.

فكرت, وأنا أتأملها, أن ثمة جسورا , وأخرى تعبرنا, كتلك المدن التي نسكنها, والأخرى التي تسكننا, حسب قول خالد بن طوبال في " ذاكرة الجسد".



لا أدري كيف أوصلني التفكير إلى ذلك الكائن الحبري الذي انتحلت اسمه صحافيا لعدة سنوات. وكنت أوقع مقالاتي محتميا به, من رصاص الإرهابيين المتربص بكل قلم, واثقا بأن هذا الرجل لم يوجد يوما في الحياة, كما زعمت مؤلفة تلك الرواية.



الفكرة التي راودتني لفرط حبي لشخصيته, ولتشابهنا في أشياء كثيرة, حتى إنه لم يكن يختلف عني سوى في كونه يكبرني بجيل, وإنه أصبح رساما بعدما فقد ذراعه اليسرى في إحدى معارك التحرير, بينما , بدون أن أفقد ذراعي, أصبحت أعيش إعاقة تمنعني من تحريكها بسهولة مذ تلقيت رصاصتين أثناء تصوير تلك المظاهرات.

فكرت بسخرية أنه قد يكون شخص آخر قرأ ذلك الكتاب, وراح هذه المرة يسرق لوحات الرجل, ويرسم تلك الجسور التي كان خالد بن طوبال مولعا بها, مستندا إلى وصفها في تلك الرواية. لكن اللوحات ماكانت تبدو تمرينا في الرسم, بقدر ما هي تمرين على الشفاء من وجع يلمس فيه الرسام بريشته ممكن الألم أكثر من مرة, كما ليدلك عليه.

إنه حتما أحد أبناء الصخرة وعشاقها المسكونين بأوجاعها.



خلقت تلك اللوحات لدي فضولا مباغتا في إلحاحه, فقصدت المشرفة على المعرض, أحاول مد حديث معها كي تزودني بمعلومات عن الرسام.

غير أنها قالت, وهي تدلني على سيدة أربعينية جميلة القوام, ينسدل شعرها الأحمر بتموجات على كتفيها:

- ها هي السيدة المكلفة بتلك اللوحات, بإمكانها إمدادك بما تحتاجه من معلومات.

قدمت لي المرأة نفسها بمودة, وبتلك الحرارة التي يتحدث بها الناس إلى بعضهم البعض في فرنسا في مثل هذه المناسبات ذات الطابع التضامني الإنساني. قالت:

- Bonjour.. Je suis Francoise.. que puis – je pour vous?

لم أكن أعرف بعد " ماذا تستطيعه هذه المرأة من أجلي".

فأجبتها:

- إني مهتم بهذه اللوحات. أتمنى لو أعرف شيئا عن صاحبها.

ردت السيدة بحماسة:

- إنها لزيان, أحد كبار الرسامين الجزائريين.

قلت معتذرا:

- سمعت بهذا الاسم.. لكنني مع الأسف لم أشاهد أعماله قبل اليوم.

ردت:

- أتفهم هذا . إنه ضنين العرض, ومقل الرسم أيضا, ولذا تنفد لوحاته بسرعة. كما ترى, معظم لوحاته بيعت.

قلت, وأنا أقف أمام مجموعة الجسور:

- غريب هذا الأثر الذي يتركه في النفس وقع هذا السلم اللوني. دورة النور بين لوحة وأخرى تعطيك إحساسا أنك ترافق الجسر في دورة نهاره, مع أن الألوان لا تتغير, إنها ذاتها.

قالت:

- لأنه تعلم الاختزال اللوني من أيام الحاجة. في البدء لم يكن لديه مال, فاقتصد في الألوان. كان له بالكاد ما يكفي لثلاثة ألوان أو أربعة, فرسم بألوانه جسرا.

واصلت المرأة:

- كل الرسامين لهم بدايات متقشفة. بيكاسو في أول هجرته إلى فرنسا رسم لوحات غلب عليها اللون الأزرق, ورأى النقاد سببا واحدا لمرحلته الزرقاء تلك: إن فقر المهاجر الجديد منعه من شراء ألوان أخرى وحدد خياره . فان غوغ رسم أكثر من لوحة لحقول الشمس لأنه لم يكن في حوزته سوى اللون الأصفر.

كنت سأبدي لهذه المرأة إعجابي بثقافتها, لولا أن ذهني كان مشغولا كليا بذلك الرسام الذي بدأت أتعاطف معه, وأحزن لبؤسه. وكعادتي رحت أفكر في طريقة تمكنني من مساعدته.

قلت لها:

- لا أفهم.. ألا يكون أحد فكر في مساعدة رسام موهوب كهذا, لا يملك ثمن شراء ألوان للرسم؟

ضحكت السيدة وقالت:

- الأمر ليس هكذا.. كنت أحدثك عن بداياته, عن هذه اللوحة التي رسمها قبل أربعين سنة يوم كان يعالج في تونس أثناء حرب التحرير. أشارت بيدها إلى لوحة " الجسر المعلق".
رد مع اقتباس