عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 05-27-2010, 12:17 AM
الصورة الرمزية مُنتهى آلرقـه
مُنتهى آلرقـه غير متواجد حالياً
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: الأمآكن الي مريت إنت بيهآ .,,
المشاركات: 1,259
مُنتهى آلرقـه is on a distinguished road
افتراضي

دققت في اللوحة: في أسفلها كتب: تونس 1956 .

شيء ما بدأ يشوش ذهني. فكرة مجنونة عبرتني, ولكنني استبعدتها خشية أن أشكك في قواي العقلية. قلت:

- ظننته شابا.. كم عمره إذن؟

- إنه ستيني.

- وما الذي أوصله إلى هذه الجسور؟

- هوسه بقسنطينة طبعا! غالبية هذه اللوحات رسمها منذ 10 سنوات, حدث أن مر بفترة لم يكن يرسم فيها سوى الجسور. هذا بعض ما بقي من ذلك الجنون. معظمها بيعت في معارض سابقة.

خشيت فجأة, إن أنا واصلت الأسئلة, أن أقع على اكتشاف مخيف.

سألتها وكأنني أهرب من مفاجأة لا أدري عواقبها:

- وماذا يعرض غير لوحات الجسور هذه؟

قالت مشيرة إلى لوحة تمثل شباكا بحرية محملة بأحذية بمقاييس وأشكال مختلفة تبدو عتيقة ومنتفخة بالماء المتقاطر منها:

- هذه اللوحة . إنها من أحب لوحاته إلي, وأعجب ألا تكون بيعت حتى الآن.

وأمام ما بدا مني من عدم إعجاب بلوحة لم أفهمها, قالت موضحة:

- هذه رسمها زيان تخليدا لضحايا مظاهرات 17 أكتوبر 1961 , خرجوا في باريس في مظاهرة مسالمة مع عائلاتهم للمطالبة برفع حظر التجول المفروض على الجزائريين, فألقى البوليس بالعشرات منهم موثوقي الأطراف في تهر السين. مات الكثيرون غرقا, وظلت جثثهم وأحذية بعضهم تطفو على السين لعدة أيام, لكون معظمهم لا يعرف السباحة.

قلت وأنا أقاطعها حتى لا أبدو أقل معرفة منها بتاريخي:

- أدري.. ما استطاع Papon المسؤول آنذاك عن الأمن في باريس, أن يبعث بهم إلى المحرقة كما فعل مع اليهود قبل ذلك, فأنزل عشرين ألفا من رجاله ليرموا بهم إلى " السين" . كان البوليس يستوقف الواحد منهم سائلا" محمد.. أتعرف السباحة؟" وغالبا ما يجيب المسكين "لا" كما لو كان يدفع عنه شبهة. وعندها يكتفي البوليس بدفعه من الجسر نحو "السين" . كان السؤال لمجرد توفير جهد شد أطرافه بربطة عنقه!

واصلت المرأة بنبرة فرحة هذه المرة:

- إن جمعية لمناهضة العنصرية استوحت من هذه اللوحة فكرة تخليدها لهذه الجريمة. قامت في آخر ذكرى لمظاهرات 17 أكتوبر بإنزال شباك في نهر السين تحتوي على أحذية بعدد الضحايا. ثم أخرجت الشباك التي امتلأت أحذيتها المهترئة بالماء, وعرضتها على ضفاف السين للفرجة, تذكيرا بأولئك الغرقى.



فقدت صوتي فجأة أمام تلك اللوحة التي ماعادت مساحة لفظ نزاعات الألوان , بل مساحة لفظ نزاعات التاريخ.

شعرت برغبة في أن أضم إلى صدري هذه المرأة التي نصفها فرانسواز, ونصفها فرنسا. أن أقبل شيئا فيها, أن أصفع شيئا فيها, أن أؤلمها, أن أبكيها, ثم أعود إلى ذلك الفندق البائس لأبكي وحدي.

أبدأت لحظتها أشتهيها؟

قطعت فرانسواز تفكيري, وفاجأتني معتذرة لارتباطها بموعد, وتركتني أمام تلك اللوحة مشتت الأفكار أتأملها تغادر القاعة.



في المساء, لم يفارقني إحساس متزايد بالفضول تجاه ذلك الرسام, ولا فارقني منظر تلك اللوحة التي أفضت بي إلى أفكار غريبة, وأفسدت علاقة ود أقمتها مع نهر السين.

حتما, هذا الرسام تعمد رسم ما يتركه الموتى. فالشباك عذابنا لا الجثة.

تعمد أن يضعك أمام أحذية أكثر بؤسا من أصحابها, مهملة كأقدارهم, مثقلة بما علق بها من أوحال الحياة. تلك الأحذية التي تتبلل وتهترئ بفعل الماء, كما تتحلل جثة. إنها سيرة حياة الأشياء التي تروي بأسمائها سيرة حياة أصحابها.



قضيت السهرة متأملا في أقدار أحذية الذين رحلوا, هؤلاء الذين انتعلوها بدون أن يدروا أنهم ينتعلون حذائهم يومها لمشوارهم الأخير. ما توقعوا أن تخونهم أحذيتهم لحظة غرق. طبعا, ما كانت قوارب نجاة, ولكنهم تمسكوا بها كقارب. أحذية من زوج وأخرى من واحدة, مشت مسافات لا أحد يعرف وجهتها, ثم لفظت أنفاسها الأخيرة عندما فارقت أقدام أصحابها. كانوا يومها ثلاثين ألف متظاهر ( وستين ألف فردة حذاء). سيق منهم اثنا عشر ألفا إلى المعتقلات والملاعب التي حجزت لإيوائهم. غير أن " السين" الذي عانى دائما من علة النسيان, ما عاد يعرف بالتحديد عدد من غرق يومها منهم.



رحت أتصور ضفاف السين بعد ليلة غرق فيها كل هؤلاء البؤساء, وتركوا أحذيتهم يتسلى المارة باستنطاقها. فهذه عليها آثار جير وأخرى آثار وحل وثالثة... ماذا ترى كان يعمل صاحبها, أدهانا؟ أم بناء؟ أم زبالا؟ أم عاملا في طوابير الأيدي السمر العاملة على تركيب سيارات "بيجو"؟ فلا مهنة غير هذه كان يمارسها الجزائري آنذاك في فرنسا.

أحذية كان لأصحابها آمال بسيطة ذهبي مع الفردة الأخرى. فردة ما عادت حذاء, إنها ذلك الأمل الخالي من الرجاء, كصدفة أفرغت ما في جوفها, مرمية على الشاطئ. ذلك أن المحار لا يصبح أصدافا فارغة من الحياة, إلا عندما يشطر إلى نصفين, ويتبعثر فرادى على الشاطئ.

كان آخر ما توصلت إليه, بعد أرق ذهب بي في كل صوب, أ، أقصد في الغد الرواق لأشتري لوحة الأحذية, كسبا لصداقة فرانسواز, ولأساهم في ذلك المعرض الخيري بشراء لوحة وجدتني أعشقها.

في الواقع, كان هذا مشروعي العلني. أما مشروعي الآخر فأن ألتقي بفرانسواز مرة أخرى, وأواصل استنطاقها أكثر عن ذلك الرسام.



عاماً ونصف عام في سرير التشرد الأمني, عشت منقطعا عن العالم, أتنقل بحافة خاصة إلى ثكنة تم تحويلها لأسباب أمنية إلى بيت للصحافة يضم كل المطبوعات الجزائرية باللغتين, لا أغادرها إلا إلى إقامتي الجديدة.

كان مكاناً يصعب تسميته, فما كان بيتاً, ولا نزلاً , ولا زنزانة. كان مسكناً من نوع مستحدث اسمه " محمية" في شاطئ كان منتجعا, وأصبح يتقاسمه " المحميون" ورجال الأمن. تحتمي فيه من سقف الخوف بسقف الإهانة. فما كانت القضية أن يكون لك سرير وباب يحميك من القتلة, بل أن تكون لك كرامة.

في صيف مازافران, أيام الخوف والغبن والذعر اليومي, كنت أدري أنها تقيم بمحاذاتي في بيتها الصيفي, على الشاطئ الملاصق لي, على النصف الآخر من العالم المناقض لبؤسي, في شاطئ (نادي الصنوبر), حيث توجد محمية بنجوم أكثر, محجوزة فيلاتها لكبار القوم.

وكان في هذا عذاب لم أحسب له حساباً . أنا الذي اختار ذلك المنفى لأحتمي من حبها, أكثر من احتمائي من القتلة, وإذ الأمن العاطفي هو أول ما فقدت.



أمن هناك تغذت كراهيتي لها ونما تمردي عليها؟ أن تكون بمحاذاتي, ولكن دائما في الجهة الأخرى المناقضة لي, لا شيء يوصلني إليها, هي التي لا يفصلني عنها مطر, ولا شمس, ولا رمل, ولا بحر.. ولا ذعر.



أحيانا كنت أخرج إلى الشرفة أنتظرها بوحشة فنار بحري في ليل ممطر. عسى قوارب الشوق الشتوي تجنح بها إلي.

أحلم بشهقة المباغتة الجميلة. بارتعاد لوعتها عند اللقاء. باندهاش نظرتها . بضمتها الأولى. كعمر بن أبي ربيعة " أقلّب طرفي في السماء لعله\ يوافق طرفي طرفها حين تنظر". ثم أذهب إلى النوم, ممنيا نفسي بالمطر, عساه يعمدنا على ملة العشق في غفلة من الموت والقتلة.

مراد الذي قاسمني غرفتي الأمنية بعض الوقت, قبل أن يتحول من محميّ من السلطة إلى طريدتها. كان يعجب من وقوفي طويلا في الشرفة ويناديني إلى الداخل لأشاطره كأسا وشيئاً من الطرب.

ولكوني ما كنت من مدمني الشرب, ولا من هواة الصخب, كثيرا ما أزعجه اعتذاري, وأساء فهم أعذاري, وخرج إلى الشرفة ليسحبني نحو الداخل قائلاً بتذمر لا يخلو من خفة دم تميزه:

- يا راجل واش بيك.. يلعن بوها حياة. واش راك تخمم؟ شوف أنا ما على باليش بالدنيا.. يروحوا كلهم يقوّدوا..

كان مراد يمثل نكبة الجزائري مع بحره. يرى بحراً لا يدري كيف يقيم معه علاقة سليمة. فبين البحر وبينه توجس وريبة وسوء فهم تاريخي. ولذا كنا نسكن مدينة شاطئية جميلة تولي ظهرها للبحر, ويبادلها البحر عدم الاكتراث.

هناك أدركت قول بورخيس " البحر وحيد كأعمى" .. أو ربما أدركت أنني كنت البحر!

....*

عندما هاتفته في الصباح عاتبني لأنه تعب في الحصول على رقمي في باريس, ثم بسخريته الجزائرية المحببة إلى قلبي راح يمازحني مدعياً أنني نسيته مذ حصلت على جائزة لجيفة كلب بدل أن أصور وسامته التي دوخت الأوربيات, حتى أصبحت سيارة الإسعاف تسير وراءه لإخلاء من يقعن مغمى عليهن.. لدى رؤيته.

- " الأمبيلانس" يا خويا وراي.. أنا نمشي وهي تهز في البنات..كيفاش ندير قل لي يرحم باباك؟!

مراد كان يفوت الفرصة على الموت بالاستخفاف به. وربما كان مديناً لوجوده على قيد الحياة بمرحه الدائم, ومديناً لجمال يشع منه, باستخفافه أيضاً بالجمال, متجاوزا بذلك عقدة خلقته.

وفي هذا السياق كان يسميني " الدحدوح" ليذكرني أن وسامتي النسبية لن تغطي على بشاعته. وكانت له في هذا نظرية تستند إلى مقولة المغني الفرنسي سيرج غاسبور " إن البشاعة أقوى من الجمال لأنها أبقى". فبرغم بشاعته حصل غاسبور على فاتنات ما كن في متناول غيره وكأن القبح عندما يتجاوز ضفاف الدمامة, يصبح في فيضه النادر ضرباً من الجمال المثير للغواية.

وكان في الأمر منطق يتجاوز فهمي. قد يشرحه من الطرف الآخر, قول بروست " لندع النساء الجميلات للرجال الذين لا خيال لهم". لذا كان مراد يراهن على خيال الإناث, محطماً خجل العوانس والنساء الرصينات بمباغتهن بممازحته الفاضحة.
رد مع اقتباس